سورة الملك - تفسير تفسير البقاعي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الملك)


        


ولما دل سبحانه على بعدهم عن الهداية وعن الشكر اللذين يفخرون على الناس كافة بكل منهما، واستعطفهم بما أودع فيهم من اللطائف الربانية الروحانية المقتضية بنورانيتها للعروج إلى مواطن القدس ومعادن الأنس، دل على قدرته على حشرهم تحذيراً لهم من التمادي في الإعراض بمعنى يجده كل منهم في نفسه على وجه دال على كمال قدرته بما أودع فيهم مع تلك اللطائف مع كثائف طباع الأرض الموجبة للسفول ليكون- إذا أعلته تلك اللطائف بالتوبة- مجتهداً في تنقية آثار تلك الكثائف المسفلة كما يكون للزرع إذا حصد من بقايا تلك الجذر التي إن لم تقلع من أصلها عادت بالنبات إلى ما كان عليه الزرع أولاً، فقال مستأنفاً بياناً لأنه دليل برأسه كاف فيما سبق له: {قل هو} أي وحده {الذي ذرأكم} أي خلقكم وبثكم ونشركم وكثركم وأنشأكم بعد ما كنتم كالذر أطفالاً ضعفاء، ثم قواكم ثم جعلكم شيباً ضعفاء وأسكنكم الغضب والذعر واللجاج الحامل لكم على الولوع بما يلجئ إليه الطباع المثيرة {في الأرض} التي تقدم أنه ذللها لكم ورزقكم منها النبات الذي تقدم أن إبداءه منها ثم رده إليها وإفنائه فيها ثم إعادته كما كان بعد أن صار رفاتاً وشيئا فانياً مماتاً دليل على القدرة على البعث، لا فرق في ذلك بينه وبينكم أصلاً، فكان منه البدأ {وإليه} وحده {تحشرون} شيئاً فشيئاً إلى البرزخ ودفعة واحدة يوم البعث على أيسر وجه بمن أراد من عباده كرهاً منكم كما كان أمركم في الدنيا، فإنه لم يكن إلى الإنسان منكم أحب من الدعة والسكون، فكأنه سبحانه يضطره بما أودعه من الطبائع المتضادة وأثار له من الأسباب في طلب رزقه وغير ذلك من أمره إلى السعي إلى حيث يكره، فكما أنه قدر على ذلك منكم في الابتداء فهو يقدر على مثله في الانتهاء، ليحكم بينكم ويجازي كلاًّ على عمله كما يفعل كل ملك برعيته، وكل إنسان منكم بجماعته.
ولما كان التقدير: فلقد أبلغ سبحانه في وعظهم بنفسه وعلى لسانك يا أشرف الخلق صلى الله عليه وسلم وذلك بما هدى إليه السياق قطعاً، ذكر حالهم عند ذلك فقال إعلاماً بكثافة طباعهم حيث لم تلطف أسرارهم لقبول محبة الله تعالى وإثارة الأحوال الحسنة من الصبر المثبت واليقين وحسن الانطباع لقبول النصائح والخوف وعدم الاعتزاز بأحد غير الله تعالى من جهة نفع أو ضر، وكذلك لفت القول إلى الإعراض إيذاناً بشديد الغضب منهم: {ويقولون} أي يجددون هذا القول تجديداً مستمراً استهزاء وتكذيباً، ويجوز أن يكون حالاً من الواو في {بل لجوا}: {متى هذا} وزادوا في الاستهزاء بقولهم {الوعد} وألهبوا وهيجوا إيضاحاً للتكذيب على زعمهم بقولهم: {إن كنتم} جبلة وطبعاً {صادقين} في أنه لا بد لنا منه، وأنكم مقربون عند الله، فلو كان لهم ثبات الصبر واليقين لما طاشوا هذا الطيش بإبراز هذا القول القبيح الذي ظاهره طلب الإخبار بوقت الأمر المتوعد به، وباطنه الاستعجال به استهزاء وتكذيباً.
ولما كان قولهم هذا مع أنه استعجال بأمر الساعة استهانة بها حتى أنه عندهم كأنها من قبل الوعد الحسن وهو متضمن لإيهام أنها مما يطلع الخلق على تعيين وقته، نفى ذلك بياناً لعظمتها بعظمة من أمرها بيده فقال آمراً له بجوابهم مؤذناً بدون ذلك الإعراض لأنهم لا ينكرون علمه تعالى ذلك الإنكار: {قل} يا أكرم الخلق منبهاً لهم على تحصيل اليقين بأن ما علموه وحكموا بعلمهم فيه وما لا ردوا علمه إلى الله: {إنما العلم} أي المحيط من جميع الوجوه بما سألتم عنه من تعيين زمان هذا الوعد وغيره، ولأجل إظهار فضل العلم اللازم من كماله تمام القدرة صرف القول عن عموم الرحمة إلى إفهام العموم المطلق بالاسم الأعظم فقيل: {عند الله} أي الذي له الإحاطة بجميع صفات الكمال، فهو الذي يكون عنده وبيده جميع ما يراد منه، لا يطلع عليه غيره، وهيبته تمنع العالم بما له من العظمة أن يجترئ على سؤاله عما لم يأذن فيه، وعظمته تقتضي الاستئثار بالأمور العظام، وإلى ذلك يلوح قوله تعالى: {وإنما أنا} ولما كان السياق للتهويل والتخويف، وكانت النذارة يكفي فيها تجويز وقوع المنذور به فكيف إذا كان مظنوناً فكيف إذ كان معلوم الوقوع في الجملة ليكون العاقل متوقعاً له في كل وقت قال: {نذير} أي كامل في أمر النذارة التي يلزم منها البشارة لمن أطاع النذر لا وظيفة لي عند هذا الملك الأعظم غير ذلك، فلا وصول لي إلى سؤاله عما لا يأذن لي في السؤال عنه.
ولما كان النذير قد لا يقدر على إقامة الدليل على ما ينذر به لأنه يكفي العاقل في قبوله غلبة الظن بصدقه بل إمكان صدقه في التحرز عما ينذر به، بين أنه ليس كذلك فقال: {مبين} أي كاشف للنذري غاية الكشف بإقامة الأدلة عليها حتى تصير كأنها مشاهدة لمن له قبول للعلم.
ولما كان ما ينذر به لا بد من وقوعه، وكان كل آت قريباً، عبر عن ذلك بالفاء والماضي فقال صارفاً العقول إلى الإعراض لأن وقت الرؤية للعذاب في غاية المناسبة للإهانة: {فلما رأوه} أي الوعد بانكشاف الموعود به عند كونه، وحقق معنى الماضي والفاء بقوله: {زلفة} أي ذا قرب عظيم منهم، وذلك بالتعبير عن اسم الفاعل بالمصدر إبلاغاً في المعنى المراد وأكد المبالغة بالتاء لأنها ترد للمبالغة إذا لم يرد منها التأنيث، ولا سيما إن دلت قرينة أخرى على ذلك.
ولما كان المخوف في النذري الوقوع في السوء لا بقيد كونه من معين قال: {سيئت} ولما كان السوء يظهر في الوجه قال: {وجوه} وأظهر في موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف فقال: {الذين كفروا} أي ظهر السوء وغاية الكراهة في وجوه من أوقع هذا الوصف ولو على أدنى وجوه الإيقاع وعلتها الكآبة.
ولما كان لا أوجع من التبكيت عند إحاطة المكروه من غير حاجة إلى تعيين فاعله، بنى للمفعول قوله: {وقيل} أي لهم تقريعاً وتوبيخاً: {هذا الذي} أي تقدم من عنادكم ومكركم واستكباركم {كنتم} أي جبلة وطبعاً {به} أي بسببه ومن أجله، وصرف القول إلى الخطاب لأن التقريع به أنكأ في العذاب: {تدعون} أي تطلبون وتوقعون الطلب له طلباً شديداً تبلغون فيه غاية الجهد على وجه الاستعجال أن يستنزل بكم مكروهه فعل من لا يبالي به بوجه، وتكررون ذلك الطلب وتعودون إليه في كل وقت معرضين عن السعي في الخلاص فيه من عدوان العذاب ونيل الوعد الحسن بجزيل الثواب لبيان قوة طلبهم له وتداعيهم إليه استهزاء به حتى كأنهم لا مطلوب لهم غيره، قدم الجار المفيد غالباً للاختصاص فهو افتعال من دعا الشيء وبالشيء إذا طلبه، ودعاه الله بمكروه: أنزله به.


ولما كان من المعلوم أن من نهى آخر عن هواه وبالغ في ذلك أبغضه ذلك الناهي وتمنى هلاكه، فكيف إذا والى عليه الإنذار والتخويف بما لا يصل إلى دركه عقله ولا يرى له مقدمة بتحققها، وكان الكفار يسعون في هلاك النبي صلى الله عليه وسلم ومن تبعه كل سعي، وكان هلاك النذير إنما ينفع المنذر على تقدير نجاته من هول ما كان يحذره منه النذير، أمره سبحانه أن يذكرهم بهذا لينظروا في ذلك المتوعد به، فإن كان ممكناً سعوا في الخلاص مما قد يكون منه من العذاب، وسلكوا في الهرب منه مسلكاً سهلاً بعيداً من سوء الانقلاب، ودخلوا إلى فسيح المانع منه من أوسع باب، أو كفوا عن السعي في هلاك النذير وطووا ما مدوا له من الأسباب، ليدلهم إذا كان صادقاً على شيء يحميهم أو يخفف عنهم ذلك المصاب، فقال منبهاً على شدة الحذر من مكر الله وعدم الاغترار به للمؤمن الطائع لعلمه، أنه لا يقدر أن يقدر الله حق قدره فكيف بالعاصي فضلاً عن الكافر مكرراً للأمر بالقول تنبيهاً على أن كل جملة صدرت به كافية في الدلالة على مقصود السورة وعائدة إليه لما اشتملت عليه من باهر القدرة ووافر العظمة: {قل} أي يا أفضل الخلق كلهم وأشرفهم وأعظمهم وأتقاهم لهؤلاء الذين طال تضجرهم منك وهم يتمنون هلاكك حسداً منهم وعمى في قلوبهم وبعداً وطرداً، قد استحكم واستدار بهم ذلك تقدير العزيز العليم {أرءيتم} أي أخبروني خبراً أنتم في الوثوق به على ما هو كالرؤية.
ولما كانوا غير عالمين بعاقبة الأمر في هلاكه ومن معه بما يقصدونهم به، حذرهم عاقبة ذلك بالتعبير بأداة الشك، وإسناد الإهلاك إلى الله معبراً عن الاسم الدال على تناهي العظمة إلى حد لا يدع لغيره منها شيئاً إعلاماً بأنه على القطع بأنه لا شيء في أيديهم فهو لا يخافهم بوجه فقال: {إن أهلكني} أي أماتني بعذاب أو غيره {الله} أي الذي له من صفات الجلال والإكرام ما يعصم به وليه ويقصم به عدوه {ومن معي} أي من المؤمنين والمناصرين رضي الله عنهم أجمعين بغضبه علينا مع ما لنا من الأسباب بالطاعة بالأعمال الصالحة التي رتب سبحانه عليها الفوز والنجاة حتى لا يبقى أحد ممن يكدر عليكم بالمنع من الهوى القائد إلى القوى والحث على العقل الضامن للنجاة {أو رحمنا} بالنصرة وإظهار الإسلام كما نرجو فأنجانا بذلك من كل سوء ووقانا كل محذور وأنالنا كل سرور، فالآية من الاحتباك: ذكر الإهلاك أولاً دليلاً على النجاة ثانياً، والرحمة ثانياً دليلاً على الغضب أولاً {فمن} وكان ظاهر الحال يقتضي: يجيركم مع طلبكم المسببات من الفوز والنجاة بغير أسباب بل بأسباب منافية للنجاة جالبة للعذاب، فوضع الظاهر موضع الضمير تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف واستعطافاً لهم إلى إيقاع الإيمان والرجوع عن الكفران فقال: {يجير الكافرين} أي العريقين في الكفر بأن يدفع عنهم ما يدفع الجار عن جاره {من عذاب أليم} يصيبهم به الذي هم عالمون بأنه لا شيء إلا بيده، وإلا لنجى أحد من الموت الذي خلقه وقدره بين عباده جزاء على ما كانوا يؤلمون من يدعوهم إليه وينصحهم فيه، فإذا كان لا ينجيهم من عذابه شيء سواء متنا أو بقينا فالذي ينبغي لهم إن كانوا عقلاء السعي فيما ينجى من عذابه، لا السعي في إهلاك من هو ساع في خلاصهم من العذاب، ولا يقدرون على إهلاكه أصلاً إلا بتقدير الذي أمره بإنذارهم.
ولما كان لا يقدر على التعميم بالنعمة إلا من كان عام القدرة والنعمة والرحمة، وكان التذكير بالنعم أشد استعطافاً، صرف القول إلى التعبير بما هو صريح في ذلك، فقال مذكراً بذلك لعلمهم بأنه لا نعمة عليهم إلا منه واعترافهم بذلك ليحذروه ويتذكروا عموم قدرته فيعلموا قدرته على البعث فينفصل النزاع: {قل} يا خير الخلق: {هو} أي الله وحده {الرحمن} أي الشامل الرحمة لكل ما تناولته الربوبية، فلا يليق بعقل عاقل أن يدع أحداً من خلقه في ظلم ظالمه فلا يأخذ له بحقه، لأن ذلك لا يرضاه أقل الناس لنفسه مع عجزه فكيف بمن هو كامل القدرة وإلا لما قدر على عموم الرحمة {آمنا به} أي أنا ومن آمن بي لهذا البرهان القاطع بأنه لا يكافئه شيء فهو كاف في الإيمان به {وعليه} أي وحده {توكلنا} لأنه لا شيء في يد غيره وإلا لرحم من يريد عذابه أو عذاب من يريد رحمته، فكل ما جرى على أيدي خلقه من رحمة أو نقمة فهو الذي أجراه لأنه الفاعل بالذات، المستجمع لما يليق به من الصفات، فنحن نرجو خيره ولا نخاف غيره، وقد أقررنا له بهذه العبارة على وجه الحصر بالألوهية والربوبية فلا نحتج في السلوك إليه إلى معوق عن ذكره والتفكر في آلائه ولو كان المعوق نفيساً في ظاهر الحياة الدنيا ولو كان مخوفاً فإنه لا خوف معه سبحانه، فالتوكل عليه منجاة من كل هلكة مجلبة لكل ملكة، ولم يفعل كما تفعلون أنتم في توكلكم على رجالكم وجاهكم وأموالكم.
ولما أبان هذا طريق الصواب، وجلى كل ارتياب، وكان لا بد من الرجوع إليه والانقلاب، لإتمام الرحمة بالثواب والعقاب، سبب عنه قوله: {فستعلمون} أي عند التجلي عليكم بصفة القهر عما قليل بوعد لا خلف فيه {من هو} أي منا ومنكم متداع بذاته ظاهراً وباطناً {في ضلال} أي أخذ في غير مسلك موصل إلى مقصد محيط به الضلال بحيث إنه لا قدرة له على الانفكاك منه إلا إن أطاع من يجره بيده فيخرجه منه، ولما كان الشيء إذا كان فيه نوع لبس كان ربما اقتضى قبول العذر قال: {مبين} أي بين في نفسه موضح لكل أحد أنه لا خفاء به.
ولما افتتح سبحانه السورة بعظيم بركته وتمام قدرته وتفرده في مملكته، ودل على ذلك بتفرده بالإماتة والإحياء، ختم بمثل ذلك بالماء الذي وجوده هو سبب للحياة وعدمه سبب للموت، فقال قارعاً بالتنبيه مشيراً بتكرير الأمر إلى مزيد التوبيخ والزجر والتبكيت دالاً على تعيين ما أبهم من أهل الضلال، ومصرحاً بما لوح إليه من ذلك الإجمال. {قل} أي يا أعظم خلقنا وأعلمهم بنا: {أرءيتم} أي أخبروني إخباراً لا لبس فيه ولا خفاء، ولما كان شديد العناية بهذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، سكن قلبه في وعيدهم بالإشارة إلى الرفق بهم لأجله، فابتدأ الوعيد بحرف الشك فقال: {إن} ولما كانت النعمة أشد ما يكون إذا كانت في الصباح الذي هو موضع ارتقاب الفلاح قال: {أصبح مآؤكم} أي الذي تعدونه في أيديكم- بما نبهت عليه الإضافة.
ولما كان المقصود المبالغة، جعله نفس المصدر فقال: {غوراً} أي نازلاً في الأرض بحيث لا يمكن لكم نيله بنوع حيلة- بما دل على ذلك الوصف بالمصدر {فمن يأتيكم} على ضعفكم حينئذ وافتقاركم وانخلاع قلوبكم واضطراب أفكاركم {بماء معين} أي جار دائماً لا ينقطع أو ظاهراً للأعين سهل المأخذ إلا الله رب العالمين فإنه هو القادر على ذلك، فقد رجع ذلك الآخر كما ترى على ذلك الأول، وعانقه على أحسن وجه وأكمل- والله أعلم.

1 | 2 | 3